الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن الأعمال التي تكفر الذنوب كثيرة، وهذا من فضل الله تعالى ورحمته ، ومن هذه الأعمال: الوضوء، والمشي إلى المساجد، وانتظار الصلاة، والمحافظة على الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة، وقيام رمضان، وصيامه، وصيام عرفة وعاشوراء، والحج والعمرة، والصدقة، والحمد عقب الأكل واللبس، كما يكفرها ما يصيب المسلم من مكاره كالمرض والتعب والهم والغم. مع العلم بأن هذه المكفرات إنما تكفر الصغائر دون الكبائر، وأن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة، كما ذهب إلى ذلك الجمهور.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أن أعمالاً صالحة تكفر الذنوب وتمحوها ومنها:
1- الوضوء: وقد جاء فيه أحاديث كثيرة منها: عن عمران رضي الله عنه أنه قال: فلما توضأ عثمان قال: والله لأحدثنكم حديثا. والله لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يتوضأ رجل فيحسن وضوءه، ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها". وعن عثمان رضي الله عنه أنه دعا بطهور ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله" رواه مسلم. وروى البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا ما تقول؟ هل ذلك يبقي من دَرَنِه - وسخه- ؟" قالوا: لا يُبقي من درنه شيئا، قال: "فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا".
2- الصلوات الخمس: أخرج مسلم رحمه الله عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر". وروى أيضا رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن".
3- موافقة تأمين المأموم لتأمين الملائكة: روى الشيخان رحمهما الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمّن الإمام فأمنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه". وأخرج مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال أحدكم آمين، والملائكة في السماء آمين، فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه".
4- المشي إلى المساجد: روى أبو يعلى والبزار رحمهما الله بإسناد صحيح وغيرهما عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إسباغ الوضوء في المكاره، وإعمال الأقدام إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة يغسل الخطايا غسلاً". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط". رواه مسلم رحمه الله.
5- المحافظة على صلاة الجمعة: روى مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر".
6- صيام نهار رمضان وقيام ليله: روى الشيخان رحمهما الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه". وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه.
7- صيام عاشوراء ويوم عرفة: عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تصوم؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال العلماء: سبب غضبه صلى الله عليه وسلم أنه كره مسألته; لأنه يحتاج إلى أن يجيبه ويخشى من جوابه مفسدة, وهي أنه ربما اعتقد السائل وجوبه، أو استقله، أو اقتصر عليه وكان يقتضي حاله أكثر منه. وربما غضب لسؤاله عن صوم الوصال المنهي عنه. فلما رأى سيدنا عمر رضي الله عنه غضبه صلى الله عليه وسلم قال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، فجعل رضي الله عنه يردد هذا الكلام حتى سكن غضبُه صلى الله عليه وسلم، فقال رضي الله عنه: يا رسول الله، كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: "لا صام ولا أفطر" أو قال: "لم يصم ولم يفطر"، قال: كيف بمن يصوم يومين ويفطر يوما؟، قال: "ويطيق ذلك أحد؟"، قال: كيف من يصوم يوما ويفطر يوما؟ قال: "ذاك صوم داود عليه السلام؟". قال: كيف بمن يصوم يوما ويفطر يومين؟ قال: "وددت أني طقت ذلك". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله". وسأله عن صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، فقال صلى الله عليه وسلم: "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله". رواه مسلم رحمه الله.
8- الحج والعمرة: روى البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه". وروى الشيخان رحمهما الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
9- الحمد بعد الطعام: روى أبو داود والترمذي رحمهما الله عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل طعاما ثم قال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومن لبس ثوبا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر".
10- المرض والتعب والهم والغم: روى البخاري رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال صلى الله عليه وسلم: "ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها". وروى رحمه الله أيضا عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وَصَب[1] ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه".
هذا وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الأعمال الصالحة تكفر صغائر الذنوب، وأما الكبائر فلا تُكَفَّر بمجرد فعل الأعمال الصالحة بل لا بد من التوبة بشروطها حتى تُكَفَّر. قال القاضي عياض رحمه الله: هذا المذكور في الحديث من غفران الذنوب ما لم تؤت كبيرة هو مذهب أهل السنة وأن الكبائر إنما تكفرها التوبة أو رحمة الله تعالى وفضله. وقال الإمام ابن العربي المالكي رحمه الله: الخطايا المحكوم بمغفرتها هي الصغائر دون الكبائر لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما اجتنُِبَت الكبائر"، فإذا كانت الصلاة مقرونة بالوضوء لا تكفر الكبائر، فانفراد الوضوء بالتقصير عن ذلك أحرى. والله أعلم.